ترجمة: علاء البشبيشي

كشف الربيع العربي اللثام عن حقيقةٍ مذهلةٍ، لم يتوقف أمامها كثيرون: رغم تلهُّفِ الجماهيرِ المسلمةِ للديمقراطية، فإن كونك ملكًا أو سلطانًا يمنحكَ أمانا نسبيًا. ألم ترَ أن اضطرابات هذا العصر حين هبَّت كانت النجاة من نصيب الأسر الملكية أكثر من الحكام المستبدين العلمانيين، رغم ارتداء الفريق الأخير ثوب التقاليد الثورية. 

لم يصل فيروس الخلع إلى أيٍّ من العائلات الملكية، بل أجرى بعضها تعديلاتٍ بارعة؛ لمواجهة الاضطرابات العامة. قارِن ذلك بالمستبدين العسكريين، وبلطجية الخدمات الأمنية، الذين إما قُتِلوا، أو طُرِدوا إلى المنافي، أو يخوضون حربًا شديدة الدموية كي تظل رؤوسهم على أكتافهم. 

انظر مثلا إلى ملك المغرب محمد السادس، وعاهل السعودية عبدالله بن عبدالعزيز (إبان اشتعال الثورات العربية، وخليفته سلمان بعد وفاة الأول)، وملك الأردن عبدالله الثاني، وسلطان عمان قابوس بن سعيد، وبقية مشايخ الخليج؛ صحيحٌ أنكَ ستجد عصبية متزايدة للحفاظ على عروشهم خلال الآونة الأخيرة مقارنة بالسنوات الماضية. وهو ما يظهر بشكل أوضح في الأردن والبحرين والسعودية. علاوة على ذلك، هم ليسوا ملائكة، بل يستعينون بالخدمات الأمنية القوية، والقسوة المنتظمة؛ للحفاظ على السلطة. لكن برغم ذلك كله، حين تقارن هذه الأنظمة الملكية بالأنظمة الأخرى في المنطقة، ستجد هؤلاء الملوك يتمتعون بالاستنارة والميكيافيلية على أحسن وجوهها.

الشرعية

الحقيقة أن الملوك كانوا مشابهين لدولهم بدرجةٍ لم يرقَ إليها الضباط ولا بلطجية الأمن ذوي الملابس السوداء. بمعنى آخر: هذا الفريق الأخير لم يكن متجانسًا بما يكفي مع دوله، أو لم يكن يحكم ما يمكن تسميته دولا أصلا، على النقيض من الملوك العرب.

من منظور الهوية، ثمة تداخل لا سبيل إلى فصمه بين هؤلاء الملوك ودولهم. ألم ترَ مثلا أن السلاسة العلوية حكمت في المغرب لفترة أطول من عمر الولايات المتحدة منذ نشأتها كبلد، وأن اسم المملكة العربية السعودية مقتبسٌ من “آل سعود” العائلة التي بدونها لا توجد دولة، وأن سلطان عمان وحَّد عوالم متباينة لتأسيس الدولة، حتى مشيخيات الخليج شكلها البريطانيون ثم عززها ثنائي: عدد السكان الصغير والثروة الهيدروكربونية الكبيرة، ناهيك عن الأردن. والعائلة الملكية الوحيدة التي تعتبر في مأزق، هي البحرين؛ بسبب الانقسام السني-الشيعي الذي أنهك العراق.

لهذا السبب- المتعلق بالشرعية التاريخية، تحديدًا، لم تكن العائلات الملكية في الخليج مضطرة إلى الحكم بطريقة شديدة الوحشية- مقارنة بعائلات القذافي والأسد وحسين. هذا الاعتدال النسبي- مرة أخرى، مقارنة بالسائد في منطقتهم- جعلها على الأقل مقبولة لدى سكان بلادها، ناهيك عن تمتعها بشعبية صريحة في بعض الحالات. 

علاوة على ذلك، ونظرا للأموال المتوارثة، لم يكن هناك القدر ذاته من الدوافع نحو الفساد. صحيحٌ أن الملوك والسلاطين قد يعيشون ببذخ، لكنهم ليسوا كمحدثي النعم من رؤساء الدكتاتوريات العلمانية؛ وهو ما جعل الفريق الأول أكثر قبولا لدى الجماهير.

هناك عوامل أخرى: على وجه التحديد، لمَّا كانت المراسيم الاحتفالية هي سمة الملوك؛ فبإمكانهم في كثير من الأحيان تفويض الوزراء للقيام بالمهام اليومية القذرة، وعندما تسوء الأمور يمكن تحميلهم اللوم بارتياح. 

في الواقع، من يقول إن العالم العربي لا يعرف الفصل بين السلطات؟ بعض الملوك العرب يستفيدون من هذه الميزة طيلة الوقت لمصلحتهم. 

على سبيل المثال: يشتهر ملك الأردن بتسريح رؤساء الحكومات خلال كثير من موجات الانكماش الاقتصادي. وما كانت مشكلة عائلتي القذافي ومبارك إلا افتقادهما لشرعية موروثة (لا أحد يؤمن بأُبَّهَتِهِما ولا بأحوالهما)، لذلك سعوا لامتلاك السلطة المطلقة، كتأمينٍ ضد الانقلابات. لكن لأنهم امتلكوا السلطة المطلقة؛ لم يكن هناك مفر من توجيه اللوم لهما شخصيًا حين تمخض الاقتصاد عن نتائج متفاوتة.

وأخيرًا، هناك شيء آخر، يصعب تحديده. 

صحيحٌ أن العائلات الملكية العربية تحظى بشرعية يفتقدها نظراؤهم في الدول غير الملكية. بيدَ أن الحفاظ على التقاليد العائلية المتعلقة بسلطة الدولة لأجيالٍ، وفي بعض الأحيان لقرونٍ، هو مسئولية كبيرة: أكبر بكثير حتى من نموذج الشركات التي تديرها العائلات في الغرب. 

إن مفتاح كونك أميرًا حقيقيًا، هو: الجمع بين القسوة والفضيلة، كما يقول ميكيافيلي. لذلك ينبغي على الغرب اعتبار نفسه محظوظًا؛ لأن لديه هذا الطراز من المستبدين في السلطة.

طالع المزيد من المواد
طالع المزيد من المواد المنشورة بواسطة العالم بالعربية
طالع المزيد من المواد المنشورة في قسم العالم بالعربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

طالِع أيضًا

الذكاء الاصطناعي سيكون له تأثير هائل على الاقتصاد في المستقبل

يمكن للمؤسسات (الإعلامية والبحثية إلخ) الحصول على تقاريرنا حصريًا الآن. لمعرفة المزيد حول …