الرئيسية في العمق سوريا الكبرى بين الحاضر المضطرب والقادم المجهول

سوريا الكبرى بين الحاضر المضطرب والقادم المجهول

1 second read
0

جوزيف أولمرت*- يور ميدل ايست

ترجمة: د. محمود عبد الحليم

واقع سياسي جديد

قليلة تلك الأيديولوجيات السياسية التي استطاعت الصمود أمام ما يزيد عن قرن من الاضطرابات في الشرق الأوسط، ومع ذلك تحتفظ بحضورها (وان لم يأخذ ذلك الحضور بالضرورة الصورة الأولى التي ظهرت عليها تلك الأيدولوجيات). ومن تلك الأيدولوجيات فكرة “سوريا الكبرى”. وفي الوقت الذي يمر فيه العراق وسوريا بحالة من التفكك والحرب الأهلية، ويعيش فيه لبنان على “حافة” الصراع كما هي العادة معه، يتشكل أمامنا واقع سياسي وجغرافي جديد في منطقة لعبت في استقرارها السياسي دوماً قضايا الهوية والوطنية والعلاقة بين الأغلبية والأقلية دوراُ محورياً. ولقد كانت هذه القضايا السبب الرئيس وراء ظهور فكرة ” سوريا الكبرى” في المقام الأول، والواقع أن بقاء تلك القضايا كما هي دون حسم حتى اليوم قد يفسر لنا ما طرأ على الموضوع من تغيير في الآونة الأخيرة.

سوريا الكبرى: الفكرة والمنشأ

نشأت فكرة “سوريا الكبرى” في ستينيات القرن التاسع عشر كنتيجة للحرب الأهلية الدامية بين سوريا ولبنان والتي استمرت من 1840 حتى 1861، والتي دفعت المثقفين المسيحيين إلى إثارة قضية الهوية في صورة السؤال التالي: كيف يمكن لكافة الأطياف الدينية أن تعيش جنباً الى جنب في بلد واحد يضمهم جميعا دون أن يتقاتلوا أو يتحاربوا؟ أحد الأفكار التي طرحت إجابة لهذا السؤال هي فكرة “سوريا الكبرى”.. ذلك الوطن “الطبيعي”، و”التاريخي” الذي يضم أراضي ما يعرف الآن بسوريا ولبنان وإسرائيل والضفة الغربية والأردن، وطن له سماته الثقافية والتاريخية المميزة والمختلفة عن بقية دول الشرق الأوسط حيث الغلبة للعرب المسلمين، وطن يمكن للناس على اختلاف طوائفهم أن يكون لهم تراثهم العرقي المشترك، مما يمكنهم من التغلب على حاجز الدين.

في الثامن من مارس لعام 1920 نصب القوميون العرب “فيصل بن حسين بن على الهاشمي” ملكاً على مملكة سوريا الكبرى، وهو أمر ظل حبراً على ورق مع تطبيق نظام الانتداب، وظهور لبنان، وتقسيم المنطقة بين فرنسا وبريطانيا، بيد أن الفكرة لم تفقد بريقها أبداً، و ظل جناحا العائلة الهاشمية، الملك عبد الله في الأردن وفرع الأسرة في العراق، يسعيان وراء تحقيق هذا الطموح، ثم حدث في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين أن وجدت الفكرة أخيراً تصوراً لها من خلال إطار أيديولوجي شامل مع ظهور الحزب السياسي الذي تبني القضية ورعاها، ونقصد به “الحزب السوري القومي الاجتماعي“، تحت قيادة زعيمه ” انطون سعادة” (1904-1945)، وهو مسيحي ينتمي الى الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية كان قد هاجر الى البرازيل من قبل.

أنطون سعادة وميشيل عفلق: الأستاذ والتلميذ

العنصر الرئيس في أطروحات “سعادة” هو أن القومية سمة خالدة من سمات التاريخ الإنساني الذي تتحكم وتؤثر فيه عوامل الجغرافيا ومن هنا يمكن أن نفهم ظهور القومية السورية التي ظهرت وتشكلت ورسخت منذ عهود سحيقة بفعل العوامل الجغرافية والسياسية المعروفة عن “سوريا الكبرى” والتي تميزها عن بقية الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط مثل دول شمال أفريقيا ومصر وشبه الجزيرة العربية. كان أنطون سعادة مفكراً ذا تأثير كبير على الآخرين، ولا شك أن أكثر من تأثر به من السياسيين والمفكرين هو “ميشيل عفلق” مؤسس حزب البعث العربي الذي خرج بأيدولوجية تضم العالم العربي كله وترى في القومية العربية سمة خالدة. وهذه الفكرة الأخيرة من أفكار “أنطون سعادة” الخالصة.

حزب البعث والقومية العربية

لقى “أنطون سعادة” مصير الإعدام في لبنان في يوليو عام 1949 بتهمة الخيانة لدعوته لبنان للعودة في الاندماج مع سوريا التي تعرض فيها أنصاره للاضطهاد وحظر النشاط على يد حزب البعث الذي لم يكن يسمح بأي صوت من أصوات الاحتجاج لسنوات طويلة. لكن الأمور تغيرت بعض الشيء في سبعينيات القرن الماضي عندما بدأ نظام الأسد وحزبه البعثي العلوي في الحديث عن سياسات سوريا الإقليمية بأفكار مستوحاة مما كتبه أنطون سعادة من قبل، خاصة عند الإشارة عن تدخل سوريا في الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976، ومن يومها أصبح الحزب السوري القومي الاجتماعي صاحب حظوة لدى نظام الأسد. غير أن ذلك الحزب لم يستطع أبداً التخلي عن كونه حزباً طائفياً، وكانت سياسة الأسد الإقليمية استراتيجية تدافع بالأساس عن الأقلية العلوية في سوريا، في حين رأى فيها بعض المراقبين بحثاً عن الهيمنة في الفضاء السياسي والجغرافي لسوريا الكبرى، مستخدماً شعارات البعث القومية العربية جنبا الى جنب مع دوافع الحزب السوري القومي الاجتماعي. تكمن المفارقة التاريخية هنا في كذب مزاعم كل من الحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث عن أنهما أحزاب سياسية تعلو فوق الأعراق والقوميات. إذ كانا دوماً يمثلان الصوت السياسي للطائفية. ولقد أثبتت أحداث عام 2011 وما تلاه أن ذلك لم يكن كافياً، وأن الشرعية السياسية تتطلب ما هو أكبر من الدكتاتورية العسكرية الوحشية التي ترتكز على فئة واحدة من الشعب.

سقوط العراق السني

بدأ تفكك العراق مع الغزو الأمريكي عام 2003 الذي أنهى حكم نظام صدام حسين السني المذهب، مما فتح الباب ولأول مرة في التاريخ لإقامة نظام يهمين عليه الشيعة في العراق. إذا أضفت الى ذلك النفوذ المتصاعد لحزب الله، الممثل اللبناني الشيعي للمصالح الإيرانية في لبنان المعرض دوماً للأزمات يتبدى لك التغيير الأخير الذي طرأ على حكاية السياسات التي وراء موضوع “سوريا الكبرى”.

صعود “إيران الكبرى”

ونقصد بها قصة صعود “إيران الكبرى” أو الهلال الشيعي كما يسميه أعداء النظام الإيراني من السنة، حيث تبدو إيران الداعم الأكبر للحكومة العراقية الشيعية، والداعم الإقليمي الرئيس لنظام بشار الأسد في سوريا، والقوة التي تقف وراء حزب الله. ولم بحدث في التاريخ العربي الحديث أن ظهرت قوة بمثل هذه المكانة البارزة في التأثير السياسي في المحيط السياسي والجغرافي لـ”سوريا الكبرى”. والذي يزيد الأمر غرابة أن هذه القوة ليست دولة عربية، بل إيران، اللاعب غير العربي، وهو وضع يشير بشكل دراماتيكي الى انهيار نظام الدولة العربية على النحو الذي عرفناه عنها منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. كما يشير الى حلول السياسة الإسلامية محل السياسة العربية حيث إيران هي القوة التي تمثل المسلمين الشيعة في مواجهة الدول التي تمثل المسلمين السنة.

تركيا: العملاق السني المنافس

وان كان هذا هو مصدر القوة لإيران، بقيادتها تحالف يجمع بين الشيعة وغيرهم (لأن العلويين ليسوا من الشيعة) فانه أيضا نقطة ضعفها، فالشيعة أقلية، وهناك حقيقة أخرى لا ينبغي أن نغفل عنها وهي وجود قوة أخرى تنافس إيران على الهيمنة، ونعني بها تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان. مرة أخرى تظهر أمامنا قوة ليست عربية بل عملاق إقليمي من العالم الإسلامي السني، يحاول أن يملأ الفراغ الذي خلفه انهيار سوريا والعراق وضعف المملكة العربية السعودية. يجاهر اردوغان بالحديث عن “الموصل” و “حلب” باعتبارهما مناطق مصالح تركية، كما يتبني مطالب الأقليات السنية التركية في سوريا والعراق، ويعلن تقديم تركيا باعتبارها القوة التي تدافع عن السنة، وان لم يشمل ذلك الأكراد السنة.

تنتظرنا أيام عاصفة، فسوريا الكبرى تعيش حالة من الاضطراب، والقادم لا يزال في عداد المجهول، وقد لا تعدو أحلام إقامة إيران الكبرى أن تكون أحد المحاولات الفاشلة لظهور قوة سياسية مهيمنة في منطقة تعاني من أمراض الطائفية المزمنة.


*جوزيف أولمرت أستاذ غير متفرغ بجامعة “ساوث كارولينا” بالولايات المتحدة، ولد في إسرائيل وعمل من قبل أستاذا للدراسات الشرق الأوسطية في عدد من الجامعات الإسرائيلية، وشغل عدة مناصب رفيعة في الحكومة الإسرائيلية، وشارك في مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط عام 1991، وما تلاه من مباحثات سلام بين سوريا وإسرائيل.

طالع المزيد من المواد
طالع المزيد من المواد المنشورة بواسطة العالم بالعربية
طالع المزيد من المواد المنشورة في قسم في العمق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

طالِع أيضًا

محمي: استعادة «الغمر والباقورة».. قمة جبل الجليد في العلاقات الباردة بين الأردن وإسرائيل

لا يوجد مختصر لأن هذه المقالة محمية بكلمة مرور. …